مناقشة لا في المولد .. بل في منهجية الحديث عنه

هذه وقفات مع ما كتبه (...) في تحريم الاحتفال بالمولد ...

أولاً: رسالة الشوكاني في المولد النبوي في غاية من الضعف، ومن نظر لكلام الشوكاني، ثم عرضه على مناهج الاستدلال لم يتوقف لحظه في ابتعاده عنها، وجميع ما أورده الشوكاني قد أجاب عنه الإمام السيوطي بأجوبة جارية وفق مناهج النظر ودراية الأثر.

ثانياً: نقل عن الشوكاني أنه نقل المنع عن الفاكهاني ..

وأزيده من الشعر بيت .. فقد جنح للمنع الشاطبي ولابن الحاج كلام مضطرب، فإنه (أعني ابن الحاج) مع كونه يقول ببدعة الاحتفال بالمولد إلا أنه يرى أن يستقبل ويستثمر شهر ربيع بالطاعات والقربات والصلاة والسلام على خير البريات ... وممن قال ببدعيته ابن تيمية رحمه الله، ولكن جمهور العلماء بعد حدوث هذا النوع من (الاحتفال) ذهبوا إلى جوازه.

ثالثاً: نقل عن الشوكاني أنه زعم إجماع الأمة على عدم الفعل قبل ظهور فرقة الباطنية

والحقيقة أن هذا ليس محل خلافٍ، إذْ لو كان قد فعله الصحابة لما اختلف الناس فيه، والمسألة الحادثة إنما يبحث الناس في حكمها بعد حدوثها، ولا يصح أن يُنسب إلى العلماء الذين كانوا قبل أن يكون ذلك الأمر الجديد أنهم يمنعونه أو يجيزونه ...

وأما قوله بأن الشوكاني ردَّ على الزاعمين أنه من الدين بحجج قوية، وأسلوب علمي ومنطقي وعقلي

فلا والله ما هو بقوي ولا بمنطقي ... وسننظر إلى ما قاله الشوكاني ...

وأساس الخلل عند صاحب المقال أنه لم ينطلق من منهج علمي حاكم، بل من موقف سياسي خاص في منطقة خاصة ...

تكلم صاحب المقال عن النظرة التاريخية للاحتفال بالمولد النبوي، وبدأ بداية غير موفقة حيث مَثَّل للأعياد الجاهلية بـ (يوم بعاث) ... يوم الفرقة والخصومة بين أبناء العمومة ... وهو يوم القتال والخصام وفتيل الفتنة للمستقبل ... فأين هذا من يوم (الاجتماع والرحمة والمحبة والنور) وهو يوم المولد

ما الداعي لصاحب المقال وهو يتحدث عن يوم الحب والخير والاجتماع أنْ يذكر يوما بعاث الذي تثار فيه العصبيات والفرقة

ثم ذكر صاحب المقال أنَّ التوسع في الإكثار من الأعياد يذهب بمقاصدها، لأنه يحول تلك الأعياد إلى طقوس تعبدية في ذاتها، ولذا اقتصر الإسلام على عيد الفطر وعيد الأضحى فقط، لأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده ...

وهذا استدلال في غير محله ... فإن الاحتفال بالمولد النبوي إنما يحدث غالباً مرة واحدة في السنة ... ولا أدري ما هو الاحتفال بالمولد الذي يقصده صاحب المقال ... إن كان هو الذي ((تصالح عليه العلماء)) من الاجتماع على (1) تلاوة قرآن (2) وقراءة سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم (3) وإنشاد يتضمن بعض شمائل النبي صلى الله عليه وسلم (4) ثم يقوم صاحب الدار بإطعام الطعام ... فلو فعل ذلك كل أسبوع لكان قليلاً ...
وهل ما يقوم به صاحب المقال من إلقاء الدروس كل يوم سبب يؤدي إلى نتيجة عكسية ...
وهل ما تقوم به بعض المؤسسات من الاحتفال السنوي باليتيم أو يوم العلم، أو يوم التحرير أو اليوم الوطني ... ينطبق عليه ذلك ...
فإن قال: هذه من العادات لا العبادات .. فنقول له: إن ((هذه الصورة الخاصة من العناية بهذه المناسبة)) ليس عبادة في ذاته ...
وأما المضامين التي يحتويها المولد فهي عبادات مشروعة بنصوص شرعية ثابتة


ثم ذكر صاحب المقال ما قام به المخالفون لأهل السنة من اتخاذ يوم قتل الحسين مأتما ... ولا شك أن مقتل الحسين رضي الله عنه ثُلْمَة عظيمة، ولكننا أُمِرْنا شرعا بالصبر على المصائب، ولا عزاء فوق ثلاثة أيام ...

ولكننا لم نؤمر شرعاً بترك الفرح بنعمة الله ورحمته ... وأعظم رحمة ونعمة هي مولد سيدنا رسول الله ... وكل أيام الله المشهودة في تاريخ الإسلام هي فرع عن يوم مولده كيوم بعثته وهجرته وبدر الكبرى ... الخ ... فما وجه الربط بين ما أُمرنا بالفرح به وما أمرنا بالصبر عليه ... أهذا هو القياس الشرعي والمنهج العلمي والحجج القوية والمسائل المنطقية ...

وقضية أن المولد النبوي أحدثه الباطنيون أو أهل السنة قضية غير مؤثرة في الحكم الشرعي فاليهود كانوا يصومون عاشوراء ولم يمنع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صيامه والأمر بصيامه ... وإن كان قصد الفاطميين بالاحتفال بالمولد إيصال رسالة بكونهم أحق بالحكم مع بدعتهم وانحرافهم ((فقد أبطل الله تعالى قصدهم)) ... وبقيت دول الإسلام السنية دولة بعد دولة تحتفل وتعظم هذه المناسبة الشريفة ...

ثم انتقل صاحب المقال إلى الكلام عن الحكم الشرعي للاحتفال بالمولد وعاد مرة ثانية ليربط بين متناقضات ... بين ما أمر الله بالفرح به وهي النعم، وما أمر الله بالصبر عليه وهي المصائب ... فذكر أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من استشهاد الحسين ... وما علاقة هذا بهذا ... وهل استدل إمام معتبر من أئمة المسلمين الذين استحسنوا المولد بهذه الاستدلال الغريب ... إنَّ من استحسنوا المولد من الأئمة الحفاظ الفقهاء لهم أدلتهم الشرعية الواضحة


قال صاحب المقال بأن العلماء الذين ذهبوا إلى جواز الاحتفال هم من عندهم ميل للتصوف، بينما الذين عندهم ميل للفقه والحديث مالوا للمنع ...

وهذا قول غريب بعيد تماما عن الاستقراء، فإن الذين لهم كلمات صريحة في تجويز المولد هم الذين اشتهروا بالحديث كالإمام ابن دحية والإمام أبو شامة والإمام تقي الدين السبكي والإمام العراقي صاحب الألفية في علوم الحديث، والإمام المحدث أمير المؤمنين في الحديث ابن حجر العسقلاني والإمام المحدث السخاوي وغيرهم كثير ... فأين كلام صاحب المقال من الحقيقة ...

ثم ذكر صاحب المقال أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يكره أن يقوم له أصحابه ... وغفل صاحب المقال أن هناك مظاهر أعظم وأجل من (القيام) لم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم فقد كادوا يقتتلون على فضل وضوئه وشعره ونخامته ... فيا عجباً كيف يجعل صاحب المقال نهيه صلى الله عليه وسلم عن القيام له دليلا على (منع الاحتفاء بالمولد) ولا يجعل صور التعظيم الأخرى دليلاً على (جواز الاحتفاء بالمولد) ... ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالقيام لسعد فقال كما في الصحيحين (قوموا إلى سيدكم) ...


ثم قال صاحب المقال عن المولد ونحوه: (ونسبتها إلى الدين اتهام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يبلغ البلاغ المبين، واتهام لصحابته وآل بيته بالتقصير في المتابعة والعمل بنصوص الشريعة كتابا وسنة).

فيا لله العجب ... أيقال في أمر حادث لم يفعله رسول الله وصحابته وهو مندرج تحت أصول الشريعة وموافق لمقاصدها بأن فعله اتهام للنبي والدين والصحابة ... أيقال في فعل ((أذان عثمان الثاني للجمعة)) بأنه رضي الله عنه يتم النبي بعدم البلاغ ... ويتهم الخلفاء قبله بالتقصير ... أهذه هي الحجج الناصعة الشرعية ... عجباً والله ...

أيقال في (تعريف ابن عباس يوم عرفة) وهذا التعريف أمر حادث ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله الخلفاء الراشدون الأربعة ... أيقال بأن ابن عباس يتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة ... ويتهم الخلفاء الراشدين بالتقصير ... أما يفرق هؤلاء بين (الحادث المندرج تحت عموم أو مصلحة) (وحادث يصادم الشرع والدين) ... يا لله العجب ... أيصل بنا الحال إلى أن نناقش في هذه المسائل الواضحات ...


ثم قال إن المولد لو نسبه فاعله إلى الإسلام فهو بدعة محرمة لأن خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام والآل الكرام والصحابة وأهل الإسلام وخير القرون لم يفعلوه ...

عجباً ... أهو بدعة محرمة لأنه يصادم الإسلام ... أم لأنه لم يفعل من النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه  ... فليقولوا عن أفعال الصحابة التي لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه بأنها بدع محرمة ... وليقولوا عن أفعال أئمة التابعين التي ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته بأنها بدع محرمة ...

ثم قال صاحب المقال: فهل يعقل أنهم جهلوا من الدين ما عرفناه اليوم في القرن العشرين؟

وهذا من التهويل الذي أول من يعلم كونه مخالفا للواقع هو كاتبه ... فإنه قد ذكر بأنه حدث قبل ألف سنة من الآن ... فما علاقة (القرن العشرين) ولكنه الصراع السياسي الذي يسيطر على مقاله

ثم عاد ليقول:
هل يعقل أن يكون الاهتمام بالمولد النبوي من الدين وجهله هؤلاء وعرفناه نحن؟

وأعود لأقول له:
أيعقل أن يكون الأذان الثاني للجمعة الذي فعله عثمان رضي الله عنه وتعريف ابن عباس من الدين ثم لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ...

فما كان جوابه فهو جوابنا ....

ثم قال: لو كان المولد مسألة معاصرة لم توجد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة لاحتمل أن يجهل؟

وهذه مغالطة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم (اهتم واحتفى بمولده) فصامه وقال (ذاك يوم ولدت فيه)، وكان الصحابة يعقدون المجالس لمدارسة السيرة، وهل المولد إلا مدارسة للسيرة ...

والجديد في المولد ليس هو الاهتمام بالمولد والاعتناء والاحتفال والاحتفاء به، وإنما هو ((الصورة المركبة)) من ((قرآن وإنشاء وإطعام)) ... وهذا لا يصادم الشرع في شيء ...


ثم قال:
والثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هو أهله بلا مبالغة وذكر سيرته العطرة هو المستحب لا شكل الاحتفال أو الدعوة إليه أو تحديده في زمن معين فليس من الدين في شيء.
وجعل الوسيلة في ذاتها عبادة أو من الدين افتراء على الله ورسوله.

أقول:
قوله: (وجعل الوسيلة في ذاتها عبادة) ... هذه العبارة فيها من الإجمال ما لا يليق بالفقيه ... ماذا يقصد بكونها من الدين ... نحن نعلم أن للوسائل حكم المقاصد ... فوسيلة الواجب الشرعي واجبة شرعاً، وإذا تعددت الوسائل الجائزة سلك المكلف ما شاء منها ...

وأما ما مثل به من وسائل لم تعد مجدية كركوب الخيل في القتال فهو مثال في غير موضعه ... فإن مناسبة المولد النبوي هي موسم للسيرة والخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ... وهي وسيلة نافعة صالحة


ثم قال:
والعلماء في الإسلام إنما يخبرون الناس بحكم الشرع في النص كتابا وسنة، ولا يجوز لهم أن يشرعوا ما لم يرد في النصوص الثابتة

وهل يقول صاحب المقال:
إن من دين الله وشرعه (عموم النص) و (المصلحة المرسلة)، وغيرها من الأدلة ...

فإن قال لا ... فقد خرج عما قرره العلماء في مناهج الاستدلال، ومسالك النظر ....
وإن قال: نعم ... لم يكن له سبيل لمنع المولد ... فما المولد إلا ((سنن مجتمعة)) ... أما تندرج تلاوة القرآن في المولد تحت عموم، أما تندرج تلاوة سيرته العطرة تحت عموم ... الخ


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الفقير إلى الله سيف بن علي العصري

مقالان للعلامة يوسف الدجوي المالكي في التوسل والاستغاثة