مقالان للعلامة يوسف الدجوي المالكي في التوسل والاستغاثة

تعرض العلامة شيخ الأزهر المحدث يوسف الدجوي المالكي رحمه الله لهذه المسألة بتفصيل، وذكر الاعتراضات التي يذكرها المانعون للاستغاثة، ثم أخذ في الجواب عنها، بأسلوب سهل جميل، قال رحمه الله:

(لا تزال ترد إلينا الرّسائل بشأن التوسّل طلبًا للتوضيح والإسهاب.
وقد ذكر بعض مرسليها أن من الناس من يكفّر المتوسّلين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الّذي سنتوسّل به جميعًا يوم القيامة على ما نطقت به الأحاديث الصحيحة.

ولو قالوا إن في المسألة تفصيلاً، أو أنّ بعض العبارات التي يقولوها المتوسّلون، أو الزائرون ينبغي التّحاشي عنها، وتعليم ما يصح أن يقول في توسّله أو عند زيارته، لقبلنا منهم ذلك وشكرناهم عليه، ولكنهم أفرطوا كل الإفراط، فرأينا أن نفيض القول في ذلك، فلعلّنا بزيادة التّقرير والتّكرير نُزيل تلك العقيدة التي هي أخطر شيءٍ على الإسلام والمسلمين.

ولنجعل الكلام معهم في مقامين، حتى نفحمهم بالمعقول والمنقول، فنقول: الكلام معهم في جهة الدليل العقلي، وما نضطر إليه من الدليل النقلي.

قبل أن نخوض في هذا الموضوع نحب أن نشترط على المنكرين أن يصبروا صبر المرتاضين بصناعة المنطق، العارفين بقوانين المناظرة، فلا يخرجوا عن الفرض الذي نفرضه حتى نتم الكلام فيه، وأن يعرفوا موضوع البحث فلا ينتقلوا عنه إلى غيره، وسنفرض الفروض كلها ثم نبطلها واحدًا واحدًا.
ولينظروا حتى لا يختلط المعقول بالمنقول، ولا المنقول بالمعقول، وسنوفّي كلاًّ حقّه إن شاء الله، وعسى ألاّ يكونوا بعد ذلك ممن يسلّم المقدّمات ثم ينازع في النّتيجة، فنقول:
هؤُلاء إن كانوا يمنعون التوسّل والاستغاثة، ويجعلونهما شركًا من حيث إنّهما توسّل واستغاثة، فاستغاثة المظلوم بمن يرفع ظلمه إذًا شرك، واستغاثة الرجل بمن يعينه في بعض شؤونه شرك، واستغاثة الملك بجيشه لدى الحروب شرك، واستغاثة الجيش بالملك فيما يصلح أمره شرك.
بل نقول: يلزمهم على هذا الفرض أنَّ طلب المعونة من أرباب الحرف والصنائع التي لا غنى للناس عنها شرك، وطلب المريض للطبيب شرك، بل يلزم بناءً على تلك الكليات التي تقتضيها الحيثيّة أن استغاثة الرّجل الاسرائيلي بسيدنا موسى عليه السلام وإجابته إياه كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] شرك، إلى غير ذلك مما لا يقول به عاقل فضلاً عن فاضل.

هذا كله إن كانوا يقولون: إنها ممنوعة من حيث إنّها استغاثة بغير الله كما فرضنا.

فإن قالوا: أنّ الاستغاثة والتوسل بالأموات شرك دون الأحياء.
قلنا لهم: لا معنى لهذا بعد أن سلّمتم أن الاستغاثة بغير الله من الأحياء ليست بشرك، وبعد ما ورد به القرآن ووقع عليه الإجماع في كل زمان ومكان، ولا معنى لأن يكون طلب الفعل من غير الله شركًا تارة، وغير شرك تارة أخرى، فإن فيه نسبة الفعل لغير الله على كل حال.

وإن قالوا : إنّنا لا نعتقد التأثير الذاتي من الأحياء الذين نطلب منهم المعونة.
قلنا لهم: يجب إذًا أن تجعلوا مناط المنع هو اعتقاد التأثير الذاتي لغير الله تعالى، لا فرق بين الأحياء والأموات، فإن وجد ذلك الاعتقاد كان شركًا وإلا فلا، سواءٌ كانت الدّعوة لحي أو ميت.

وإن كان مناط المنع هو تلك السَّبَبِيَّة الظاهرة التي تفهم من ظواهر الألفاظ، وجب أن يكون ذلك كله شركًا، حتى طلب الرجل من أخيه أن يعينه في الحمل على دابته، أو بناء داره، أو حفر نهره، إلى غير ذلك كما أوضحنا في الفرض الأوّل.

فإن قالوا: إنّنا ننسب تلك الأفعال والتأثيرات إلى غير الله تعالى من الأحياء، معتقدين أنّ الخلق والإيجاد ليس إلا لله تعالى، وأن الحي ليس له إلا الكسب لا غير.

قلنا لهم: كذلك من يطلب من الأموات أو يتوسّل بهم، والقرينة فيهما واحدة، وهو إيمان بأن الله بيده ملكوت السّموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، وأنّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنّه لا خالق غيره، ولا موجد سواه.

وإن كان سرّ المنع عندهم هو أن الميت لا يقدر على شيء مما طلب منه.

فنقول لهم:

أولاً: لا يلزم من ذلك أن يكون الطلب شركًا بل عبثًا فقط، والاستغاثة بالأحياء أقرب إلى الشرك منها بالأموات، لأنها أقرب إلى اعتقاد تأثيرهم في الإعطاء والمنع بمقتضى الحس والمشاهدة، لولا نور الإيمان وساطع البرهان .

ثانيًا: ثم نقول لهم: ما معنى قولكم "إن الميت لا يقدر على شيء"، وما سره وباطنه عندكم؟ إن كان ذلك لكونكم تعتقدون أنّ الميّت صار ترابًا، فما أضلّكم في دينكم، وما أجهلكم بما ورد عن نبيكم، بل عن ربكم من ثبوت حياة الأرواح، وبقائها بعد مفارقة الاجسام، ومناداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها يوم بدر بقوله: (يا عَمرو بنَ هِشَام وَيَا عُتبَة بنَ ربيعَة وَيَا فُلانَ بن فلان إنَّا وَجَدنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُم مَا وَعَدَ رَبُّكْم حَقًّا) فقيل له: ما ذلك ؟
فقال: (مَا أنْتُم بِأسمَعَ لِمَا أقُولُ مِنْهم)، ومن ذلك تسليمه على أهل القبور ومناداته لهم بقوله: (السَّلاَمُ عَلَيكم يَا أهْلَ الدِيَار). ومن ذلك عذاب القبر ونعيمه، وإثبات المجيء والذهاب إلى الأرواح، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي جاء بها الإسلام، وأثبتتها الفلسفة قديمًا وحديثًا.

ولنقتصر هنا على هذا السّؤال:
أيعتقدون أن الشهداء أحياءٌ عند ربهم، كما نطق القرآن بذلك أم لا؟
فإن لم يعتقدوا فلا كلام لنا معهم، لأنّهم كذّبوا القرآن حيث يقول: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169].
وإن اعتقدوا ذلك فنقول لهم: إن الأنبياء، وكثيرًا من صالحي المسلمين الذين ليسوا بشهداءَ كأكابر الصحابة، أفضل من الشهداء بلا شك ولا مرية، فإذا ثبتت الحياة للشهداء فثبوتها لمن هو أفضل منهم أولى.

على أن حياة الأنبياء مصرّح بها في الأحاديث الصحيحة، وقد رأى صلى الله عليه وآله وسلم موسى عليه السلام يصلّي فوق الكثيب الأحمر، وراجعه مرارًا عندما فرضت الصلاة خمسين في كل يوم وليلة حتى صارت خمسًا، كما قابل آدم وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام فهذا كلّه يثبت حياة الأرواح، وأنه لا شك فيها.

فإذًا نقول: حيث ثبتت حياة الأرواح بالأدلة القطعيّة التي قدمنا بعضها، فلا يسعنا بعد ثبوت الحياة إلا إثبات خصائصها، فإن ثبوت الملزوم يوجب ثبوت اللازم كما أن نفي اللازم يوجب نفي الملزوم كما هو معروف.

وأي مانع عقلاً من الاستغاثة بها، والاستمداد منها كما يستعين الرجل بالملائكة في قضاء حوائجه، أو كما يستعين الرجل بالرجل، وأنت بالروح لا بالجسم إنسان.

وتصرّفات الأرواح على نحو تصرفات الملائكة لا تحتاج إلى مماسة ولا آلة، فليست على نحو ما تعرف من قوانين التّصرّفات عندنا، فإنّها من عالم آخر، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، وماذا يفهمون من تصرّف الملائكة أو الجن في هذا العالم ؟!

ولا شك أنّ الأرواح لها من الإطلاق والحرِّيَّة ما يمكّنها من أن تجيب من يناديها، وتغيث من يستغيث بها، كالأحياء سواء بسواءٍ، بل أشد وأعظم. وقد ذكرنا لك فيما سبق عن ابن القيم أنّ الأرواح القوية، كروح أبي بكر وعمر ربّما هزمت جيشًا، إلى آخر ما ذكرناه. فإن كانوا لا يعرفون إلا المحسوسات، ولا يعترفون إلا بالمشاهدات، فما أجدرهم أن يسموا طبيعيين لا مؤمنين.

على أنّنا نتنزل معهم، ونسلم لهم أن الأرواح بعد مفارقة الأجساد لا تستطيع أن تعمل شيئًا، ولكن نقول لهم: إذا فرضنا ذلك وسلّمناه جدلاً فلنا أن نقرّر: أنّه ليست مساعدة الأنبياء والأولياء للمستغيثين بهم من باب تصرّف الأرواح في هذا العالم على نحو ما قدمنا، بل مساعدتهم لمن يزورهم أو يستغيث بهم بالدعاء لهم، كما يدعو الرجل الصالح لغيره، فيكون من دعاء الفاضل للمفضول، أو على الأقل من دعاء الأخ لأخيه، وقد علمت أنهم أحياءٌ يشعرون ويحسّون ويعلمون، بل الشعور أتم والعلم أعم بعد مفارقة الجسد، لزوال الحجب التّرابية، وعدم منازعات الشهوات البشرية.

وقد جاء في الحديث أن أعمالنا تعرض عليه صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن وجد خيرًا حمد الله، وإن وجد غير ذلك استغفر لنا.

ولنا أن نقول:
إن المستغاث به، والمطلوب منه الإغاثة هو الله تعالى، ولكن السائل يسأل متوسلاً إلى الله بالنبي أو بالولي في أنه يقضي حاجته، فالفاعل هو الله، ولكن أراد السائل أن يسأله تعالى ببعض المقربين لديه الأكرمين عليه، فكأنه يقول: أنا من محبيه أو محسوبيه، فارحمني لأجله. وسيرحم الله كثيرًا من الناس يوم القيامة لأجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغيره من الأنبياء، والأولياء، والعلماء.

وبالجملة : فإكرام الله لبعض أحباب نبيه لأجل نبيه، بل لبعض العباد لبعض أمر معروف غير مجهول، ومن ذلك الذين يصلون على الميت، ويطلبون من الله أن يكرمه ويعفو عنه لأجلهم بقولهم: "وقد جئناك شفعاءَ فشفعنا فيه ".

والمقصود من ذلك كله إثبات أن الله يرحم بعض العباد ببعض، على أن توجّه الإنسان إلى النبي، أو الولي، والتجاءَه إليه تحس به روح النبي والولي تمام الإحساس، وهو كريم ذو وجاهة عند الله تعالى، كما قال تعالى في بعض أصفيائه: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، وكما قال في بعض آخر: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]، فتعتني تلك الروح بذلك الملتجئ أشد الاعتناء في تسديده وتأييد، والدعاء له هي والملائكة الذين يجلونها، ويحبون مسرتها ورضاها، والأنبياء والأولياء محبوبون للملائكة بشاهد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ فِي السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ)... إلى آخر الحديث، وأن الملائكة لتقول للذين قالوا: رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا: { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ } [فصلت:31]، كما نصّ على ذلك القرآن الشريف.

وذلك سرّ التوجّه إلى الأولياء وزيارتهم، لتنتبه أرواحهم لحال الزائر، وتلتفت إلى معونته بما أعطاهم الله تعالى من الخصائص، كما تنفع أخاك بما أعطاك الله من قوة، أو وجاهة، أو مكانة، أو ثروة، أو أعوان، أو أنصار ... إلى آخره، وإن الإنسان هو هو في الدنيا والآخرة، من حيث روحه التي هي باقية في العالمين جميعًا، وليس الإنسان إنسانًا إلا بها كما شرحنا، والأمر جلي، ولكنها الأهواء عمَّت فأعمت.

والخلاصة:

أنه لا يكفر المستغيث إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله تعالى، والتّفرقة بين الأحياء والأموات لا معنى لها، فإنه إن اعتقد الإيجاد لغير الله كفر، على خلاف للمعتزلة في خلق الأفعال، وإن اعتقد التسبب والاكتساب لم يكفر.

أنت تعلم أن غاية ما يعتقد الناس في الأموات، هو أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء، لا أنهم خالقون مُوجِدون كالإله؛ إذ لا يعقل أن يعتقد فيهم الناس أكثر من الأحياء، وهم لا يعتقدون في الأحياء إلا الكسب والتّسبّب، فإذا كان هناك غلط فليكن في اعتقاد التّسبّب والاكتساب؛ لأن هذا هو غاية ما يعتقده المؤمن في المخلوق كما قلنا، وإلا لم يكن مؤمنًا، والغلط في ذلك ليس كفرًا، ولا شركًا.

ولا نزال نكرر على مسامعك أنه لا يعقل أن يعتقد في الميت أكثر مما يعتقد في الحي، فيثبت الأفعال للحي على سبيل التّسبّب، ويثبتها للميت على سبيل التأثير الذّاتي والإيجاد الحقيقي، فإنه لا شك أن هذا مما لا يعقل.

فغاية أمر هذا المستغيث بالميت - بعد كل تنزل- أن يكون كمن يطلب العون من المُقعد غير عالم أنّه مُقْعَد، ومن يستطيع أن يقول إن ذلك شرك ؟! على أن التّسبّب مقدور للميت وفي إمكانه أن يكتسبه كالحي بالدعاء لنا، فإن الأرواح تدعو لأقاربهم، كما في الحديث الشريف إذا بلغهم عنهم ما يسوؤهم، فيقولون: (اللهم راجع بهم أو لا تميتهم حتى تهديهم).

بل الأرواح يمكنها المعاونة بنفسها كالأحياء، ويمكنها أن تلهمك وترشدك كالملائكة، إلى غير ذلك على ماشرحناه، وكثيرًا ما انتفع الناس برؤيا الأرواح في المنام. ولعلّنا نعود إليه.

ثم قال الشيخ الدجوي رحمه الله جواباً على السؤال التالي:

س: هل جاء في السّنّة أنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم  عَلَّم النّاس أن يسألوا الصّالحين من الأموات ويطلبوا منهم الدّعاء؟ أرجو أن تذكر ولو حديثًا واحدًا؟

الجواب: نحن نقلب عليه السّؤال أوّلاً - فنقول: هل جاء في السّنّة أنّ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى النّاس عن أن يسألوا الصّالحين ويطلبوا منهم الدّعاء؟ أرجو أن تذكر لنا شيئًا من ذلك ولو حديثا واحدًا؟

ثم نقول له ثانيًا: إنّ جواز الأشياء لا يتوقّف على ورود الأمر بها، بل على عدم النّهي عنها كما هو مقرّر في علم الأصول: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام:145] إلى آخره، فكل ما لم يرد فيه نص بالحظر فهو مباح على ما تقتضيه الآية، وعَلَّمَنا صلى الله عليه وآله وسلم في السّنّة الصّحيحة: أنّ ما أمرنا به فعلناه ولم نتركه، وما نهى عنه اجتنبناه ولم نفعله، وما سكت عنه فهو عفو، فهذه هي قواعد العلم الّذي يعرفه العلماء.

وأما شبهة الموت فهي شبهة واهية؛ لأنّكم بين أمرين: إمّا أن تنكروا إدراك الأموات، وعلمهم ودعاءهم وسماعهم، وإمّا أن تقرّوا بذلك، فإن أنكرتموه ملأنا لكم الدّنيا أدلّة وبراهين على ثبوت ذلك لهم مثل: دعاء آدم، وإبراهيم، وغيرهما من الأنبياء عليهم السّلام لنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعراج، كما في حديث البخاري ومسلم وغيرهما، وكما في حديث: ( تُعْرَضْ عَلَيَّ أعْمَالُكُمْ فَإنْ رَأيْتُ خَيْرًا حَمَدْتَ الله، وَإنْ وَجَدْتُ غيْرَ ذلِكَ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ )، وكما في حديث عرض أعمال الأحياء على الأموات ودعائهم لهم، وقد ذكره ابن تيميّة نفسه في فتاويه، واعترف به ابن القيّم كل الاعتراف وقرّره أتمّ التّقرير...

أمّا إذا اعترف الوهّابيّون بأنّ للأموات إدراكًا، وعلمًا، وسماعًا، وأنّهم يَدْعُون، ويردّون السّلام إلى غير ذلك كما ورد في السّنّة، ثم منعوا طلب ذلك منهم كانوا متناقضين، أو نقول: كانوا ممّن يسلّم بالمقدّمات وينازع في النّتيجة، أو ممّن يقطع باللّوازم عن ملزوماتها، وهو ممّا لا يقول به عاقل فضلاً عن فاضل.

على أنّنا ذكرنا في ذلك ما يقطع الشّغب من أصله، والمراء من أُسِّه، وذلك هو الحديث الصحيح الّذي رويناه عن عثمان بن حنيف في التوسّل به في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مماته، وقد قال فيه: (يَا مُحَمَّدُ اشْفَعْ لِي عِنْدَ رَبِّكَ). ولا معنى للشفاعة إلاَّ الدّعاء الّذي يكون منه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الحديث الصحيح: (اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ)، وفي حديث آخر: (بِحَقِّ نَبِيَّكَ والأنْبِيَاء قَبْلَهُ).

فالتّوسّل بالصالحين والدعاء ثابت وواقع، وقد قلنا في بعض ما كتبناه: لا معنى لكون هذا شريكًا، كما يقوله الغلاة، فإنّ الحي إذا طلب من الميّت الّذي هو حي بروحه، متمتع بلوازم الحياة وخصائصها، فإنّما يطلب منه على سبيل التّسبب والاكتساب، لا على سبيل الخلق والإيجاد؛ لأنّه ليس من المعقول أن يرفعه عن رتبة الحي، وهو إذا طلب من الحي فإنّما يطلب منه على هذا الوجه، لا على جهة الخلق والإيجاد، والطلب من المخلوق على سبيل التّسبّب ليس شركًا ولا كفرًا، فلا معنى لتكفير المسلمين بذلك، ولو فرضنا أنّ الميّت لا عمل له، فإنّ خطأ المنادي أو المستغيث - على هذا الفرض - إنّما هو في اعتقاد السّببيّة لا الإلهيّة، واعتقاد السّببيّة في غير الله ليس هو اعتقاد الإلهيّة كما يظنّه الجاهلون، وقد عرفت ممّا قدّمناه أنّه ليس غَلَطًا أيضًا، وإنّما الغالطون هم الغلاة، وإن كان التوسّل بمنزلته عند الله فالأمر واضح، لأنّ الموت لا يغيّر المنزلة عند الله تعالى.

س: هل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أهمل نوعًا من التّوسّل إلى الله تعالى، أو ترك شيئًا ممّا يقرّب إلى الله تعالى؟

ج: لم يهمل الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا ممّا يقرّب إلى الله، ولا ترك نوعًا من أنواع التّوسّل، وقد علّمنا التّوسّل في حديث عثمان بن حنيف المتقدّم، بل توسّل هو بحقّه وحق الأنبياء قبله، وعرفنا أنّ آدم عليه السّلام توسّل به قبل وجوده، وقد بُيّن ذلك كله في الأعداد السّابقة.
وبعد، فماذا عسى أن يدل ذلك للسّائل؟! فلو فرضنا أنّ الرّسول لم يتوسّل بالصّالحين لأمكن أن يُقَال: إن مقامه أرفع من كل مقام، على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان عريقًا في العبوديّة، وكان أعلم خلق الله بإطلاق الرّبوبيّة وسعتها، وبأنّ الكل عبيدها، وتحت قهرها، وليس هناك إلاَّ فضلها الواسع، وكرمها الشّامل، وأنّه لا بد من ظهور ذل العبوديّة على كل أحد، وذلك من تعظيم الرّبوبيّة.

ويعلم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ عبيد السّيّد المطلق لهم منازل عنده، وأنّ لكل منهم مزية لديه، وأنّ المقتضي لعطائه تعالى إنّما هو العبوديّة له صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد أن يكون بينهم ارتباط العبيد وتبادل المنافع، وعلى هذا قام بناءُ الكون.

كان صلى الله عليه وآله وسلم أعرف النّاس بذلك كلّه، فطلب الدّعاء من عمر وابن عمر من رسول الله، وأمر عمر أن يطلب الدّعاء من أويس القرني، وأين أويس من عمر؟! وسأل الله تعالى بحق الأنبياء قبله كما في حديث فاطمة بنت أسد، وأمرنا أن نتوسّل به إذا عرضت لنا حاجة إلى الله، فقال ذلك للأعمى: (فَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ)، وقد فعلها الرّجل الّذي كان يتردّد على عثمان بن عفّان في خلافته، وقد بيّنا ذلك أتمّ البيان.

على أنّنا نريد منكم أن لا تكفّروا المسلمين بمثل هذا العمل الّذي لا شيء فيه، ونكتفي منكم أن تقولوا: إنّه مباح، أو خلاف الأولى، أو مكروه – إذا أردتم – ولو قلتم ذلك لاحتملناه منكم، وإن كان غير صحيح، ولكن قومك يا حضرة السّائل الّذي يظن أنّه منصف وغير متعصّب، يعملون على خلاف ذلك. انتهى النقل عن العلامة المحدث الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله.


وفي كلام العلامة يوسف الدجوي رحمه الله – لو تأمله المخالفون - جوابٌ عن كل الاعتراضات، وبيان لها بأوضح أسلوب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الفقير إلى الله سيف بن علي العصري